فصل: تفسير الآية رقم (173):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في أن الشيء المعلق بإن لا يكون عدمًا عند عدم ذلك الشيء:

احتجَّ من قال بأنَّ المعلَّق بلفظ إنْ لا يكون عدمًا عند عدم ذلك الشَّيء؛ بهذه الآية، فإنَّه تعالى علَّق الأمر بالشُّكْر بكلمة إنْ على فعل العبادة، مع أن من لا يفعل هذه العبادات يجب عليه الشكر أيضًا. اهـ. باختصار.

.التفسير الإشاري:

قال نظام الدين النيسابوري:
التأويل: الذين كفروا لم يسمعوا إذ خاطبهم الحق بقوله: {ألست بربكم} [الأعراف: 172] إلا دعاء ونداء لأنهم كانوا في الصف الأخير من الأرواح المجندة في أربعة صفوف: الأول للأنبياء، والثاني للأولياء، والثالث للمؤمنين، والرابع للكافرين فما شاهدوا شيئًا من أنوار الحق ولكنهم قالوا بالتقليد بلى فبقوا على التقليد {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا}. اهـ.

.تفسير الآية رقم (173):

قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما قيد الإذن لهم بالطيب من الرزق افتقر الأمر إلى بيان الخبيث منه ليجتنب فبين صريحًا ما حرم عليهم مما كان المشركون يستحلونه ويحرمون غيره وأفهم حل ما عداه وأنه كثير جدًا ليزداد المخاطب شكرًا فقال: {إنما حرم عليكم}. وقال الحرالي: ولما كان إدراك المؤمنين لمقتضى الخطاب فوق إدراك الناس خاطبهم تعالى بذكر ما حرم عليهم فناظر ذلك ما نهى عنه الناس من اتباع خطوات الشيطان فقال: {إنما حرم} [البقرة: 173] وأجرى إضماره على الاسم العظيم الأول إعلامًا بأن الذي أذن لهم إنما حرم عليهم ما لا يصلح لهم بكل وجه لشدة مضرته عليهم في إحاطة ذواتهم ظاهرها وباطنها، لما ذكر أن المحرم إما لحرمته علوًا كالبلد الحرام وتحريم الأمر، أو لحرمته دناءة كتحريم هذه المحرمات، ففي كلمة {إنما} نفي لمتوهمات ما يلحقه التحريم بما دون المذكور هنا كأن قائلًا يقول: حرم كذا وحرم كذا من نحو ما حرمته الكتب الماضية أو حرمته الأهواء المختلفة أو حرمه نظر علمي كالذي حرمه إسرائيل على نفسه، فكان الإفهام لرد تلك المحرمات كلها. انتهى.

.قال ابن عاشور:

في الآية الكريمة استئناف بياني، ذلك أن الإذْن بأكْلِ الطيبات يثير سؤال مَن يسأل ما هي الطيبات فجاء هذا الاستئناف مبيِّنًا المحرماتِ وهي أضداد الطيبات، لتُعرف الطيبات بطريق المضادة المستفادة من صيغة الحصر، وإنما سُلك طريق بيان ضد الطيبات للاختصار؛ فإن المحرمات قليلة، ولأن في هذا الحصر تعريضًا بالمشركين الذين حرموا على أنفسهم كثيرًا من الطيبات وأحلوا الميتة والدم، ولما كان القصر هنا حقيقيًا لأن المخاطب به هم المؤمنون وهم لا يعتقدون خلاف ما يُشرع لهم، لم يكن في هذا القصر قلبُ اعتقادِ أحدٍ وإنما حصل الرد به على المشركين بطريقة التعريض. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{الميتة} بتشديد الياء: يزيد. الباقون: بالسكون؛ {فمن اضطر} بكسر النون وضم الطاء: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم وكسر الطاء: يزيد. الباقون: بضمهما.

.الوقوف:

{تعبدون} o {لغير الله} ج الشرط مع فاء التعقيب {عليه} ط {رحيم} o {قليلًا} لا لأن ما بعده خبر إن {تزكيهم} ج والوصل أولى لاتصال بعض جزائهم بالبعض {أليم} o {بالمغفرة} ج للابتداء بالتعجب أو الاستفهام والوجه الوصل للمبالغة في الإنكار. {على النار} o {بالحق} ط للابتداء بأن {بعيد} ربع الجزء. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن كلمة {إِنَّمَا} على وجهين أحدهما: أن تكون حرفًا واحدًا، كقولك: إنما داري دارك، وإنما مالي مالك الثاني: أن تكون ما منفصلة من: إن، وتكون ما بمعنى الذي، كقولك: إن ما أخذت مالك، وإن ما ركبت دابتك، وجاء في التنزيل على الوجهين، أما على الأول فقوله: {إِنَّمَا الله إله واحد وَإِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ} [هود: 12] وأما على الثاني فقوله: {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه: 69] ولو نصبت كيد ساحر على أن تجعل {إِنَّمَا} حرفًا واحدًا كان صوابًا، وقوله: {إِنَّمَا اتخذتم مّن دُونِ الله أوثانا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} [العنكبوت: 25] تنصب المودة وترفع على هذين الوجهين، واختلفوا في حكمها على الوجه الأول، فمنهم من قال: {إِنَّمَا} تفيد الحصر واحتجو عليه بالقرآن والشعر والقياس، أما القرآن فقوله تعالى: {إِنَّمَا الله إله واحد} [النساء: 171] أي ما هو إلا إله واحد، وقال: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاءِ والمساكين} [التوبة: 60] أي لهم لا لغيرهم وقال تعالى لمحمد: {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [الكهف: 110] أي ما أنا إلا بشر مثلكم، وكذا هذه الآية فإنه تعالى قال في آية أخرى {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [الأنعام: 145] فصارت الآيتان واحدة فقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ} في هذه الآية مفسر لقوله: {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} إلا كذا في تلك الآية، وأما الشعر فقوله الأعشى:
ولست بالأكثر منهم حصى ** وإنما العزة للكاثر

وقول الفرزق:
أنا الذائد الحامي الذمار وإنما ** يدافع عن أحسابه أنا أو مثلى

وأما القياس، فهو أن كلمة {إن} للإثبات وكلمة {مَا} للنفي فإذا اجتمعا فلابد وأن يبقيا على أصليهما؛ فإما أن يفيدا ثبوت غير المذكور، ونفي المذكور وهو باطل بالاتفاق، أو ثبوت المذكور، ونفي غير المذكور وهو المطلوب، واحتج من قال: إنه لا يفيد الحصر بقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ} ولقد كان غيره نذيرًا، وجوابه معناه: ما أنت إلا نذير فهو يفيد الحصر، ولا ينفي وجود نذير آخر. اهـ.
قال الفخر:
قال الواحدي: الميتة ما فارقته الروح من غير زكاة مما يذبح، وأما الدم فكانت العرب تجعل الدم في المباعر وتشويها ثم تأكلها، فحرم الله الدم وقوله: {لَحْمَ الخنزير} أراد الخنزير بجميع أجزائه، لكنه خص اللحم لأنه المقصود بالأكل وقوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله}.
قال الأصمعي: الإهلال أصله رفع الصوت فكل رافع صوته فهو مهل، وقال ابن أحمر:
يهل بالفدفد ركبانها ** كما يهل الراكب المعتمر

هذا معنى الإهلال في اللغة، ثم قيل للمحرم مهل لرفعه الصوت بالتلبية عند الإحرام، هذا معنى الإهلال، يقال: أهل فلان بحجة أو عمرة أي أحرم بها، وذلك لأنه يرفع الصوت بالتلبية عند الإحرام، والذابح مهل، لأن العرب كانوا يسمون الأوثان عند الذبح، ويرفعون أصواتهم بذكرها ومنه: استهل الصبي، فمعنى قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} يعني ما ذبح للاصنام، وهو قول مجاهد، والضحاك وقتادة، وقال الربيع بن أنس وابن زيد: يعني ما ذكر عليه غير اسم الله، وهذا القول أولى، لأنه أشد مطابقة للفظ. اهـ.

.قال ابن عادل:

الجمهور على تخفيف {المَيْتَة} في جميع القرآن، وأبو جعفر بالتَّشديد، وهو الأصل، وهذا كما تقدَّم في أنَّ الميْت مخفَّفٌ من المَيِّت، وأن أصله مَيْوتٌ، وهما لغتان، وسيأتي تحقيقه في سورة آل عمران عند قوله: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} [آل عمران: 27].
ونقل عن قدماء النحاة، أنَّ المَيْتَ بالتَّخفيف: من فارقت روحه جسده، وبالتشديد: من عاين أسباب الموت، ولم يمت. اهـ. بتصرف.
سؤال: فإن قلت في الميتات ما يحل وهو السمك والجراد. قلت: قصد ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة. ألا ترى أن القائل إذا قال: أكل فلان ميتة، لم يسبق الفهم إلى السمك والجراد؟ كما لو قال: أكل دمًا، لم يسبق إلى الكبد والطحال. ولاعتبار العادة والتعارف قالوا: من حلف لا يأكل لحمًا، فأكل سمكًا، لم يحنث، وإن أكل لحمًا في الحقيقة. وقال الله تعالى: {لتأكلوا منه لحمًا طريًا} وشبهوه بمن حلف لا يركب دابة، فركب كافرًا، لم يحنث وإن سماه الله دابة في قوله: {إن شر الدواب عند الله الذين كفروا}. اهـ.
واستدرك أبو حيان على الزمخشري في هذا الجواب فقال:
وملخص ما يقوله: إن السمك والجراد لم يندرج في عموم الميتة من حيث الدلالة، وليس كما قال. وكيف يكون ذلك، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أحلت لنا ميتتان»؟ فلو لم يندرج في الدلالة، لما احتيج إلى تقرير شرعي في حله، إذ كان يبقى مدلولًا على حله بقوله: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} وليس من شرط العموم ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة، كما قال الزمخشري، بل لو لم يكن للمخاطب شعور ألبتة، ولا علم ببعض أفراد العام، وعلق الحكم على العام، لاندرج فيه ذلك الفرد الذي لا شعور للمخاطب به. مثال ذلك ما جاء في الحديث: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع فهذا علق الحكم فيه بكل ذي ناب. والمخاطب، الذين هم العرب، لا علم لهم ببعض أفراد ذي الناب، وذلك الفرد مندرج في العموم يقضي عليه بالنهي، كما في بلادنا، بلاد الأندلس، حيوان مفترس يسمى عندهم بالدب وبالسمع، وهو ذو أنياب يفترس الرجل ويأكله، ولا يشبه الأسد، ولا الذئب، ولا النمر، ولا شيئًا مما يعرفه العرب، ولا نعلمه خلق بغير بلاد الأندلس. فهذا لا يذهب أحد إلى أنه ليس مندرجًا في عموم النهي عن أكل كل ذي ناب، بل شمله النهي، كما شمل غيره مما تعاهده العرب وعرفوه، لأن الحكم نيط بالعموم وعلق به، فهو معلق بكل فرد من أفراده، حتى بما كان لم يخلق ألبتة وقت الخطاب، ثم خلق شكلًا مباينًا لسائر الأشكال ذوات الأنياب، فيندرج فيه، ويحكم بالنهي عنه. وإنما تمثيل الزمخشري بالإيمان، فللإيمان أحكام منوطة بها، ويؤول التحقيق فيها إلى أن ذلك تخصيص للعموم بإرادة خروج بعض الأفراد منه.
اهـ.

.قال البقاعي:

المعنى والله سبحانه وتعالى أعلم أنكم حرمتم الوصيلة والسائبة وغيرهما مما أحله الله وأحللتم الميتة والدم وغيرهما حرمه الله سبحانه وتعالى ولم يحرم الله عليكم من السائبة وما معها مما حرمتموه ولا غيره مما استحللتموه إلا ما ذكرته هذه الآية؛ وقال: {الميتة} أي التي سماها بذلك أهل العرف، وهي ما فارقه الروح من غير ذكاة شرعية وهو مما يذكى. قال الحرالي: وهي ما أدركه الموت من الحيوان عن ذبول القوة وفناء الحياة، وهي أشد مفسد للجسم لفساد تركيبها بالموت وذهاب تلذذ أجزائها وعتقها وذهاب روح الحياة والطهارة منها. {والدم} أي الجاري لأنه جوهر مرتكس عن حال الطعام ولم يبلغ بعد إلى حال الأعضاء، فهو ميتة من خاص حياته مرتكس في جوهره إلاّ من طيب الله كليته كما في محمد صلى الله عليه وسلم وفيمن نزع عنه خبث الظاهر والباطن طبعًا ونفسًا. {ولحم الخنزير} لأذاه للنفس كما حرم ما قبله لمضرتهما في الجسم، لأن من حكمة الله في خلقه أن من اغتذى جسمه بجسمانية شيء اغتذت نفسه بنفسانية ذلك الشيء «الكبر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم» فلما جعل في الخنزير من الأوصاف الذميمة حرم على من حوفظ على نفسه من ذميم الأخلاق؛ واللحم ما لحم بين أخفى ما في الحيوان من وسط عظمه وما انتهى إليه ظاهره من سطح جلد، وعرف غلبة استعماله على رطبة الأحمر، وهو هنا على أصله في اللغة يجمع اللحم الأحمر والشحم والأعصاب والعروق إلى حد الجلد وما اشتمل عليه ما بين الطرفين من أجزاء الرطوبات، وإذا حرم لحمه الذي هو المقصود بالأكل وهو أطيب ما فيه كان غيره من أجزائه أولى بالتحريم.
ولما حرم ما يضر الجسم ويؤذي النفس حرم ما يرين على القلب فقال: {وما أهل} والإهلال رفع الصوت لرؤية أمر مستعظم {به} أي رفع رافع الصوت بسببه ذابحًا {لغير الله} أي الذي لا كفؤ له بوجه. قال الحرالي: لأن ما لم يذكر عليه اسم الله أخذ من يد من ذكر عليه اسمه وليس ذلك خالقه ومالكه، إنما خالقه ومالكه الله الذي جعل ذكر اسمه عليه إذنًا في الانتفاع به وذكر على إزهاق الروح من هي من نفخته لا من لا يجد للدعوى فيها سبيلًا من الخلق. وذكر الإهلال إعلام بأن ما أعلن عليه بغير اسم الله هو أشد المحرم، ففي إفهامه تخفيف الخطاب عما لا يعلم من خفي الذكر قالوا: يا رسول الله! إن ناسًا يأتوننا بلحام لا ندري أسموا الله عليها أم لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سموا الله أنتم وكلوا».
فكان المحرم ليس ما لم يعلم أن اسم الله ذكر عليه بل الذي علم أن غير اسم الله قد أعلن به عليه، وفي تقدم إضمار المحرم في قوله: {به} تأكيد لمعناه لأنهم يقدمون ما هم به أهم وهم ببيانه أعنى، قال صلى الله عليه وسلم: «ابدءوا بما بدأ الله به» فلما كانت هذه الآية جامعة أي التحريم أظهر فيها تقديم العناية بالمحرم وهي في الإبلاغ أنهى معنى من الذي أخر فيها هذا الضمير.
ولما كان هذا الدين يسرًا لا عسر فيه ولا حرج ولا جناح رفع حكم هذا التحريم عن المضطر، ولما كان شأن الاضطرار أن يشمل جمعًا من الخلق أنبأهم تعالى بأن هذا الذي رفع عنهم من التحريم لا يبرأ من كلية الأحكام بل يبقى مع هذه الرخصة موقع الأحكام في البغي والعدوان فقال: {فمن اضطر} أي أحوجه محوج وألجأه ملجئ بأي ضرورة كانت إلى أكل شيء مما حرم بأن أشرف على التلف فأكل من شيء منه حال كونه {غير باغ} أي قاصد فسادًا بمكيدة يكيد بها لضعفه آخذًا من تلك الميتة هو أقوى منه كأن يحيله على غيرها خداعًا منه ليستأثر عليه بالأحسن منها {ولا عاد} على غيره بأن يكون أقوى منه فيدفعه عنها، ولا مجاوز لسد الرمق وإزالة الضرورة؛ ويدخل في الآية أن من بغى على إمام أو قصد بضربه في الأرض فسادًا أو عدا على أحد ظلمًا فحصل له بسبب ذلك مخمصة لا يحل له ما كان حرامًا لأن في ذلك إعانة له على معصيته، فإن تاب استباح {فلا إثم عليه} لا من التحريم الأول ولا من الحكم الآخر، ولو كان رفع الإثم دون هذين الاشتراطين لوقع بين المضطرين من البغي والتسلط ما مثله لا يحل لغير المضطرين، فانتفى الإثم على صحة من الأمرين وارتفاع الحكمين، ففي السعة يجتنب ما يضر وفي الضرورة يؤثر ضرورة الجسم لقوامه على حكم الكتاب في إقامته؛ وفي إفهامه أن من اضطر لشيء مما حرم عليه فأكله لم تنله مضرة، لأن الله سبحانه وتعالى إذا أباح شيئًا أذهب ضره «إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها» ففيه تنبيه لتغيير هذه الأعيان للمضطر عما كانت عليه حتى تكون رخصة في الظاهر وتطييبًا في الباطن، فكما رفع عنه حكمها الكتابي يتم فضله فيرفع عنه ضرها الطبيعي.
ثم علل هذا الحكم مرهبًا مرغبًا بقوله: {إن الله} فأتى بهذا الاسم المحيط إشارة إلى عموم هذا الحكم للمضطر والموسع، وفي قوله: {غفور} إشعار بأنه لا يصل إلى حال الاضطرار إلى ما حرم عليه أحد إلاّ عن ذنب أصابه، فلولا المغفرة لتممت عليه عقوبته، لأن المؤمن أو الموقن لا تلحقه ضرورة، لأن الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء وعبد الله لا يعجزه ما لا يعجز ربه {وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين} [الروم: 49] فاليأس الذي يحوج إلى ضرورة إنما يقع لمن هو دون رتبة اليقين ودون رتبة الإيمان جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشًا ففنيت أزوادهم فأقاموا أيامًا يتقوتون بيسير حتى تقوتوا بتمرة تمرة فأخرج الله لهم العنبر دابة من البحر فلم يحوجهم في ضرورتهم إلى ما حرم عليهم بل جاءهم في ضرورتهم بما هو أطيب ماكلهم في حال السعة من صيد البحر الذي «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» وفي قوله: {رحيم} إنباء بأن من اضطر فأصاب مما اضطر إليه شيئًا لم يبغ فيه ولم يعد تناله من الله رحمة توسعه من أن يضطر بعدها إلى مثله فيغفر له الذنب السابق الذي أوجب الضرورة ويناله بالرحمة الموسعة التي ينال بها من لم يقع منه ما وقع ممن اضطر إلى مثله. انتهى.